كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي مالمقدمة للعقل قيل: إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهى ثمرته غلى حد محدود أولى أن يسمى مباركًا. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها {لا شرقية ولا غربية} وخامسها القوة القدسية النبوية التي {يكاد زيها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور}.
وأما الشيخ الرئيس أو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفًا فهي الشجرة وتسمى فكرًا وإن كان قويًا فهي الزيت ويسمى حدسًا، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلًا بالفعل، وغياته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلًا مستفادًا. أما الأول فلأن الملكة نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل. وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال {مثل نوره} أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد، واشجرة النبوة والرسالة. وقيل: المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ {مثل نور من آمن به} ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعًا للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: على وجه السموات {الله نور السموات والأرض} وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين. وقيل: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح ما في قلبه من الدين، والشجرة إبراهيم عليه السلام، {ويوقد من شجرة} كقوله.
{فاتبعوا ملة إبراهيم} [آل عمران: 95] ومعنى {لا شرقية ولا غربية} أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى {يكاد زيتها يضيء} أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة:
لو لم يكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تنبيك بالخبر

وقال يحيى بن سلام: قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله» وقيل: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نورًا على نور. قال ابي بن كعب: المؤمن بين اربع خلال: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي ين أموات يتقلب في خمس من النور: كلامه نور، وعلمه نور ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع: سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال: سره وعلانيته.
قالت الأشاعرة في قوله: {يهدي الله لنوره من يشاء} إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه، وقالت المعتزلة: أراد يهدي الله لطريق الجنة، أو أراد بقوله: {من يشاء} الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف: معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف، وجانب جانب المراء والاعتساف، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله: {ويضرب الله الأمثال للناس} يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا: إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة.
ثم زاد التأكيد بقوله: {والله بكل شيء عليم} ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله: {في بيوت} اعترض أبومسلم على قول من قال إنه يتعلق ب {كمشكاة} و{بتوقد} لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضًا الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله: {في بيوت} أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة، وكذا لو جعل {في بيوت} صفة {مصباح} و{زجاجة} أو {كوكب} وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالبًا في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل.
وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل: الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلا أنه راجع إلى قوله: {ومثلًا من الذين خلوا} أي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكيك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد، والإذن الأمر، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل: الصلوات الخمس وقيل: صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم. قيل: خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال: لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في {لا تلهيهم تجارة} فقيل: نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله:
ولا ترى الضب فيها ينجحر... وقيل: أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل: الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون، فالبيع أدخل في الالهاء. وقيل: أراد بالتجارة الشراء، إطلاقًا لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب يقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل: هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس: أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في {إقامة} عوض من العين الساقطة للإعلال، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة. وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع، وتقلب الأبصار شخوصها، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعًا عليها، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك: إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والبصار تصير زرقًا. وقال الجبائي: يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما انضج بالنار، ومرة بهيئة ما أحرق، وقيل: إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل.
قوله: {ليجزيهم} متعلق بما قبله لفظًا أو معنى يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل: أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيهًا على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي: أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال. وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى {ويزيدهم من فضله} كقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] وقوله: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} قد مر تفسيره في البقرة. وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكًا بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات، وضرب لكل من حاليه مثلًا، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب} قال الأزهري: هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبهًا بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى اللقاع وهو المستوى من الأرض. وقال الفراء: هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثوابًا عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاءً للحياة، فإذا جاءه ولم يجد شيئًا عظم غمه وطال حزنه، قال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال {جاءه} فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال {لم يجده شيئًا} فنفى كونه شيئًا؟ والجواب أراد شيئًا نافعًا كما يقال فلان ما عمل شيئًا وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئًا وأراد أنه تخيل أولًا ضبابًا وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحمكماء. قوله: {ووجد الله} أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام.
وأما المثل الآخر فهو قوله: {أو كظلمات} وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة وللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في {أخرج} للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال. ومعنى {لم يكد يراها} لم يقرب أن يراها، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] قالت الأشاعرة في قوله: {ومن لم يجعل الله له نورًا} دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله جملة المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مرارًا.
ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهمًا على سبيل التقرير {ألم تر أن الله يسبح له} وقد مر مثله في سورة سبحان. والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى {صافات} أنهن يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في {صلاته وتسبيحه} إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهما سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولاسيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال {ولله ملك السموات} الآية. ثم ذكر دليلًا آخر من الآثار العلوية قائلًا {الم تر أن الله يزجي سحابًا} أي يسوقه بالرياح {ثم يؤلف بينه} أي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحابًا واحدًا متراكمًا سادًا للأفق {فترى الودق} المطر أو القطر {يخرج من خلاله} من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله: {من السماء من جبال فيها من برد} الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله: {من جبال} مفعول {ينزل} والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله.